السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا بيان حكم وضع خطوط لتسوية الصفوف في المسجد نقلا من موقع الشيخ أبي سعيد الجزائري
السؤال : الملاحظ على بعض المساجد ارتفاع أصوات المصلين إذا ما أقيمت الصلاة، وهذا لاختلافهم في تسوية الصفوف، وقد تصل أحيانًا هذه الأصوات إلى حد الفوضى، فماذا يرى الشيخ لو تمّ وضع خيوط تبيّن موضع الصفوف داخل المسجد للاستعانة بها على تسوية الصفوف؟ (علما أن مسجدنا قبل إعادة بنائه كانت به هذه الخيوط الدّالة على الصفوف)؟.
` الجواب:الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين.
وبعد: فإن الله تعالى أمر بإقام الصلاة في آيات عديدة ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [ المزمل 20 ]، وإن من إقامتها وتمامها وحُسنها تسوية الصفوف في صلاة الجماعة، وسدّ الخلل، واجتناب الفُرُجات في الصف. ولقد أمر رسول الله د بذلك في أحاديث كثيرة، فمنها:
1- عن أنس بن مالك ا عن النبي د قال:"سوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة" [رواه البخاري (723)، ورواه مسلم (433)]، بلفظ:" ...من تمام الصلاة".
2- عن جابر بن سُمرة ا قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "أَلَا تَصُفُّون كما تَصُفُّ الملائكة عند ربهم آ ؟ " قلنا: وكيف تَصُفُّ الملائكة عند ربهم؟ قال:" يُتِمُّون الصفوف المتقدمة، ويتراضون في الصَّف" [رواه مسلم (430)، وأبو داود (661)].
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر أحاديث منها: قال:"أقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حُسن الصلاة" [رواه البخاري (722)، ومسلم (435)].
4- وعن النعمان بن بشير م قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسوِّي صفوفنا، حتى كأنما يسوِّي بها القداح، حتى رأى أنَّا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوما فقام حتى كاد يُكَبِّر، فرأى رجُلًا باديًا صدره من الصف، فقال: "عبادَ الله لتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" [رواه البخاري (717)، ومسلم (436)، وغيرهما].
5- وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول "استووا ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم، لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنُّهَى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وإياكم وهيشاتِ الأسواق" [رواه مسلم (432)، ورواه أبو داود (674) و (675)، وعن ابن مسعود أيضًا].
ومعنى " أو ليخالفن الله بين وجوهكم" ومعنى " فتختلف قلوبكم" أي يوقع بينكم العداوة والبغضاء، واختلاف القلوب، ووقوع الفتن، لأن المخالفة في الصفوف مخالفة في الظواهر، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن.
6- وعن أنس رضي الله عنه أنه قدم المدينة فقيل له:«ما أنكرت مِنَّا منذ يوم عهدتَ رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ قال: ما أنكرت شيئا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف» رواه البخاري (724).
7- وعنه أيضا ا قال:«لقد رأيت أحدنا يُلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمَه بقدمه. ولو ذهبتَ تفعل ذلك اليوم، لنفر أحدهم كأنه بَغْلٌ شموس» رواه أبو يعلى في مسنده. والبغل الشموس: الذي يَنفر ولا يَسْتَقِّر لِشَغَبِهِ وحِدَّتِهِ.
إن النصوص السابقة وما يشبهها تدل على وجوب تسوية الصفوف في صلاة الجماعة، وعلى أن التهاون بذلك أمرٌ خطير على المسلمين، وقد ذهب إلى الوجوب كثير من العلماء والأئمة، منهم: البخاري، وابن خزيمة، وابن حزم، والمنذري، وابن تيمية،وابن حجر العسقلاني، والصنعاني، والشوكاني، والألباني، وابن عثيمين، رحمهم الله جميعًا.
أخطار عدم تسوية الصفوف في الصلاة:
1- نقصان أجر الصلاة، وعدم تمامها، ونقص في حسنها.
2- العداوة والبغضاء والفتن واختلاف المسلمين.
3- دخول الشياطين من خلل الصفوف لإفساد صلاة المسلمين بالوسوسة ولزرع العداوة بينهم.
4- التعرض للطرد عن رحمة الله،قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله " [رواه أبو داود (666) وهو حديث صحيح]، وقال صلى الله عليه و سلم : "إن الله تعالى وملائكته يُصَلُّوَن على الذين يَصِلُون الصفوف، ومن سدَّ فرجة رفعه الله بها درجة" [رواه احمد (24381) ، وابن ماجه (814)، وهو حديث صحيح].
5- التعّود على التمرّد على الأئمة حتى في الحياة العامة، قال الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ )[ الصف 4 ].
تنبيه: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه فتح الباري (2/167):« ومع القول بأن التسوية واجبة فصلاة من خالف ولم يُسَوّ صحيحة لاختلاف الجهتين، ويؤيّد ذلك أن أنسًا مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة، وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان» اهـ.
كيف تكون تسويه الصفوف في الصلاة؟
إن تسوية الصفوف في الصلاة واجب على الإمام والمأمومين.
1- فعلى الإمام بأن يأمر به قبل تكبيرة الإحرام، ويعتني به بحكمة ولطف ويُقْبِل على المأمومين بوجهه، ويوكِّل بذلك رجالًا حكماء عقلاء في كل صف، فقد كان عمر، وعثمان، م يفعلان ذلك، رواه مالك في الموطأ، وعبد الرزاق في المصنّف..
2- وعلى المأمومين أن يستجيبوا لذلك ويكونوا ليِّنين مستجيبين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لينوا بأيدي إخوانكم" [رواه أبو داود (666) وهو حديث صحيح] . أي إذا جذبك أخوك للتسوية فاستجب وكن ليِّنًا. وقال صلى الله عليه و سلم "خياركم ألينُكم مناكب في الصلاة" [رواه أبو داود (672)، وهو حديث صحيح]. أي: إذا أراد أحد الدخول في الصف فكن ليِّنًا معه ولا تزاحمه بمنكبك.
3- يُتِمُّ المأمومون الصف الأول، فلا يَشْرعون في الثاني حتى يُتِمُّوا الأول، ولا في الثالث حتى يتمُّوا الثاني، ولا في الرابع حتى يتمُّوا الثالث وهكذا إلى آخرها، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "أتمُّوا الصّفّ المتقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخّر " [رواه أبو داود (671) وهو حديث صحيح].
4- يتراصون في الصّفّ حتى لا يكون بينهم خَلَل ولا فُرُجات.
5- التراصّ يكون إلى جهة الإمام، فمن كان خلفه هو الذي يرصُّ المأمومون إلى جهته وهذا في كل الصفوف، وليس إلى جهة اليمين كما هو شائع لأن حديث "إن الله وملائكته يصلون على ميمامن الصفوف" الذي رواه أبو داود وابن ماجه، هو حديث ضعيف كما في ضعيف الجامع الصغير للألباني (1668).
6- تكون الصفوف متقاربة بحيث يكون بين كل صف متر ونصف تقريبًا.
7- يحاذي كل مصل منكبَه (كتفه) بمنكب أخيه، (وبالأكتاف تبدأ التسوية)، و يحاذي كل مُصل عنقه بعنق أخيه، وصدره بصدر أخيه، ثم يلصق كل مُصل قدمه بقدم أخيه (والمقصود إلصاق كعبه بكعبه وليس بالأصابع)، والكعب هو العظْم الناتيء في جانبَي الرِّجل وهو عند ملتقى الساق والقَدَم. فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:"أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب، وسدُّوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فُرُجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله" [ رواه أبو داود 666]،وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "رصُّوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده، إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف، كأنها الحَذَفُ" [رواه أبو داود (667 )]. الحذف: الغَنَم الصِّغار، ليس لها آذان ولا أذناب.
8- إذا أراد المأموم نصح أخيه في التسوية فيكلم مَنْ على يمينه أو شماله فقط، ولا يتدخل فيمن هو بعيد عنه.
9- على المصلّين فِعل كلِّ ذلك في هدوء وسكينة وكلام ليّن، وليبتعدوا عن هيشات الأسواق ، أي اختلاط الأصوات وارتفاعها، والمنازعة، والخصومة، واللغط والفتن التي فيها.
ما حكم وضع الخطوط لتسوية الصفوف؟
إن السّنة العملية التي مضى عليها الصحابة ش في تسوية الصفوف وأقرّهم عليها رسول الله د هي بإلزاق المنكب بالمنكب، والكعب بالكعب، ولم يتخذوا لذلك خطوطا على أرض المسجد.
ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الخطوط بدعة محدثة،لأن الدافع إليها كان موجودًا على عهد الصحابة، رضي الله عنهم، (وهو تسوية الصفوف)، ومع ذلك لم يفعلوها، وفيها محاذير حيث إن المصلي يلصق أصابع رجليه بأصابع رجلي صاحبه بدلًا من إلصاق الكعب بالكعب، وهذا يؤدي إلى عدم إلزاق المنكب بالمنكب، مما ينتج عنه اعوجاج في الصف، ثم إنه لو حدثت ظُلمة في المسجد لَما رأى المصلون الخطوط، ومن محاذيرها أن المصلي إذا قام إلى الركعة التالية فإنه يطأطئ رأسه ليرى الخيط، أمَّا لو اعتمد على إلزاق المنكب بالمنكب، والكعب بالكعب، فإنه لا يحتاج إلى كل هذه الحركات.
وذهب بعض العلماء إلى أن هذه الخطوط جائزة لأنها من المصالح المرسلة التي تعين على تسوية الصفوف. والراجح هو القول الأول: لأن الحكم على الشيء بأنه مصلحة مرسلة يُشترط فيه عدم مخالفة الشرع، وفي هذه الخطوط مخالفات كثيرة ذكرتُ بعضَها فيما سبق.
مسائل مهمة: إذا كان المصلون في المسجد لا يريدون إقامة الصفوف إلا بالخطوط وإلا أحدثوا فتنة، وكانت هذه الخطوط غير موجودة، فعلى إمام المسجد أن يوازن بين المصلحة والمفسدة.
2- إذا كان إمام مسجد جعل هذه الخطوط مُكْرهًا أو مقتنعا بجوازها فإنه لا يصح للمأموم الذي يراها بدعة أن ينزَعها بدون إذن الإمام، وهذا تفاديا للمشكلات، وعلى المأموم إن كان عنده علم بَيان الحكم للإمام بالحكمة فإن اقتنع وإلا فقد أدّى الذي عليه.
3- على المسلم اجتناب التفريج الكبير بين قدميه بحجّة ملاحقة قَدَمِ مَنْ على يمينه أو يساره، لأن ذلك يؤدي إلى تباعد منكبيه عن منكبي صاحبه.
4- على المسلم اجتناب ملاحقة من لا يريد من المأمومين إلصاق قدمه بقدمه، لِمَا في ذلك من الانشغال عن الخشوع في الصلاة.
5- المقصود هو إلصاق القدم بالقدم وليس وضع القَدَم على قدم صاحبك في الصلاة ففيه إيذاء وتشويش.
6- على المصلي أن يحرص أن لا يترك بينه وبين من يصلي بجواره فرجة للشيطان، سواء في القيام، أو في الركوع، أو في السجود، أو في الجلوس.
7- السنن الغريبة عن الناس يقوم أهل العلم بالتمسّك بها أوّلًا فيما بينهم ثم ينشرونها بين عامّة الناس بالحكمة، وبالأسلوب الحسن كما قال تعالى ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )[النحل:125]. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
كتبه أبو سعيد بلعيد بن أحمد في 15 ذي القعدة 1428 هـ الموافق لـ 25 نوفمبر 2007م.